كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال عليه السلام: إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه. وقوله: {ولو أعجبك حسنهنّ} في موضع الحال أي مفروضًا إعجابك بهن. قال جار الله: والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو {لا يحل} وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. وفي قوله: {وكان الله على كل شيء رقيبًا} تحذير من مجاوزة حدوده. واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى الله عليه وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها، وفيه حكمة خفية، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها. وعن عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء. تعني أن الآية نسخت، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوِّز نسخ القرآن بخبر واحد، وأمّا بقوله: {إنا أحلنا لك} وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.
ثم عاد إلى إرشاد الأمة، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله واشار إليه بقوله: {لا تدخلوا} وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله: {إن الله وملائكته} كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه. وإنى الطعام إدراكه، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى. وقيل: أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى طعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلًا، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن. وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعًا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى. ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل {إلا أن يؤذن} على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل. وقوله: {فانتشروا} للوجوب وليي كقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا} [الجمعة: 10] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله، وللدليل النقلي وذلك قوله: {ولا مستأنسين لحديث} وهو مجرور معطوف على {ناظرين} أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنسًا أن يدعو بالناس فترادفوا افواجًا إلى أن قال: يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه. فقال: ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق غلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم اهل البيت فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء وذلك قوله: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم} اي من إخراجكمن فلما رأوه متوليًا خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أي يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث اهل البيت واستماعه. ومعنى {لا يستحي} لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة. والضمير في {سألتموهن} لنساء النبيّ بقرينة الحال. قال الراوي: إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت. والمتاع الماعون وما يحتاج إليه. وثاني مفعولي {فاسألوهن} محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله.
{ذلكم} الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب {أطهر} لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالبًا. وروي أن بعضهم قال: نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله: {وما كان} اي وما صح {لكم أن تؤذوا رسول الله} بوجه من الوجوه {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا إن ذلكم} الإيذاء والنكاح {كان عند الله} ذنبًا {عظيمًا} لأن حرمة الرسول ميتًا كحرمته حيًا.
ثم بين بقوله: {إن تبدوا شيئًا} الآية. إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك. ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله: {لا جناح عليهن} أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء. قال في التفسير الكبير عند الحجاب: لما أمر الله الرجل بالسؤال من رواء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، وعند الاستثناء قال: {لا جناح عليهن} فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك. وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر، ثم الأبناء ثم الأخوة، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، أو لأنهما قد يصفيان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم.
وقد يستدل بقوله: {ولا نسائهن} مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبة بقوله: {واتقين} فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة. ومنهم من قال: المراد من كان منهم دون البلوغ. قال جار الله: في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {واتقين} فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل: وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن. ثم أكد الكل بقوله: {إن الله كان على كل شيء شهيدًا} وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه. ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في املأ الأدنى، وقد مر معنى الصلاة في السورة. وإنما قال هناك {هو الذي يصلي عيكم وملائكته} وقال هاهنا {ان الله وملائكته يصلون} ليلزم منه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلًا للمذكور على المعطوف، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة ضلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل الشافعي: بقوله: {صلوا عليه سلموا} وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها. وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله: {إن الله وملائكته يصلون} وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وعنه صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرًا» ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله» ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [الآية: 103] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفًا وإعلامًا بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى: {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه. وعن عكرمة: هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله. وقيل: أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي، والأظهر التعميم. وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله، ولعل الفرق لاغ. ثم رتب وعيدًا آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله: {بغير ما اكتسبوا} لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله: {فقد احتملوا بهتانًا} يوحتمل ن يقال: احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود لصنم إيذاء. قيل: نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون عليًا رضي الله عنه. وقيل: في إفك عائشة. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال: {يا أيها النبي} الآية. ومعنى {يدنين عليهن} يرخين عليهن. يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك. ومعنى التبعيض في {من جلابيبهن} أن يكون للمرأة جلابيب فتقتصر على واحد منها، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها. وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه {ذلك} الإدناء {أدنى} وأقرب إلى {أن يعرفن} أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها {فلا يؤذين} لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلًا عن كونهن مزينات {وكان الله غفورًا} لما قد سلف {رحيمًا} حين ارشدكم إلى هذا الأدب الجميل. ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلًا {لئن لم ينته المنافقون} عن الإيذاء {والذين في قلوبهم مرض} وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور {والمرجفون} في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة، سمي بذلك لكونه خبرًا متزلزلًا غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة.
روي أن ناسًا كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك. ومعنى {لنغرينك بهم} لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم: أغريت الجارحة بالصيد. المراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمنًا قليلًا ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى ثم تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم، ويجوز أن يكون {قليلًا} منصوب على الحال ايضًا ومعناه لا يجاورونك غلا أقلاء أذلاء ملعونين. وفي قوله: {لا يجاورونك} عطف على جواب القسم كأنه قيل: إن لم ينتهوا لا يجاورونك {سنة الله} أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وقال مقاتل: أراد كما قتل واسر أهل بدر {ولن تجد لسنة الله تبديلا} أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكانم لا في الأفعال والأخبار. ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحانًا فأمر نبيه أن يقول: إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع. ومعنى {قريبًا} شيئًا قريبًا أو يومًا أو زمانًا. ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير. ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى، أو تغييرها عن أحوالها، أو تحويلها عن هيآتها، أو نكسها على رءوسها. والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه اشرف وأكرم، وإذا كان الأشرف معرضًا للعذاب فالأخس أولى.
ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم. قوله: {ضعفين} اي ضعفًا لضلالهم وضعفًا لإضلالهم. من قرأ: {لعنًا كبيرًا} بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه. قوله: {لا تكونوا كالذين اذوا موسى} قال المفسرون: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عريانًا وقد مر في البقرة. وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتًا حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى {مما قالوا} من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم {وكان عند الله وجيها} ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة.
وروي عن شنبوذ وكان عبدًا لله. ثم أشار إلى ماينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات. أمرهم أوّلًا بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانيًا بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله: {إنا عرضنا الأمانة} فقيل: العرض حقيقة. وقيل: أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسموات فرجحت الأمانة. والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولك يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكبارًا وههنا استصغارًا بدليل قوله: {وأشفقن منها} وقد يقال: المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام. واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة، والجبال لا يطلب منها السير، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس. وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداة فله الكرامة. فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر، أو المراد هو التصوير المذكور. وقد خص بعضهم التكليف بقول لا إله إلا الله. والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال: فلان ركب عليه الدين. فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدٍّ للأمانة وقاضٍ حقها وإلا فهو حامل لها.
ولا ريب أن السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى، والأرض ثابتة في مستقرها، والجبال راسخة في أمكنتها، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه: {وما منا إلا له مقام معلوم} [الصافات: 164] إلا الإنسان فإن كثيرًا من الأشخاص بل أكثرهم مائلة إلى اسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في {الإنسان} للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس.
وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلًا، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضًا كان الزمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضًا قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولًا، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلومًا وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] وقيل: إنه كان ظلومًا جهولًا في ظن الملائكة حيث قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] وقال الحكيم: المخلوقات على قسمين: مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا {وقالوا سبحانك لا علم لنا} [البقرة: 32] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفًا كان بمعنى كونه مخاطبًا لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله: {وحملها الإنسان} دون أن يقول وقبلها إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم.
لطيفة:
الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أمينًا عليها، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلًا {ليعذب} إلى قوله: {ويتوب} إشارة إلى الفريقين. ثم وصف نفسه بكونه غفورًا رحيمًا بإزاء كون الإنسان ظلومًا جهولًا ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة. اهـ.